معالي الشيخ عبدالله التركي | لمحات من بركات

أغسطس 31, 2025

/

يزيد السعيد

شيخٌ يجلله الوقار، وتعلوه الهيبة، لا تكاد البسمة تفارق محياه، والبشر يسبح في وجهه فيصيبك من شعاع نفسه ما يغشّيك بالسرور وطيب البال، فابن الثمانين مازال متقد الهمّة، قوي العزيمة قائم بخدمة دينه ووطنه ومحبيه، مشرعٌ بابه لرواده ذلكم معالي الشيخ الوقور د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، الأصولي المحقق، والعالم المدقق، فجهود الشيخ في العلم والدعوة ونشر التراث قلّ أن يكون لها مثيل، وحياة في الإدارة عزّ نظ يها في اجتماع الأثر والتأثي .
عرفت الشيخ مذ كنت طفلاً صغياً أتصفّح الجرائد لأتدرّب على القراءة، فصور الشيخ في صفحاتها مد ونٌ تحتها بنود عريضة في منجزات الشيخ وأعماله، ومازلت أسمع باسمه مراراً في مجالس أقاربي من طلاب العلم ومحبيه، فالشيخ حديث المجالس طلاب العلم بإنجازاته وأعماله، وقدوةٌ يحتذى بها في ميدان القيادة والعلم.
سارت الأيام، وبدأ الاهتمام بالعلم يزيد ويكبر، فعلمت أن هذا الشيخ المبارك ذو فضل على المكتبة الحنبلية خاصّة، وعلى المكتبة الإسلامية عامّةً، فمؤلفات الشيخ وتحقيقاته في الّمذهب الحنبلي ينوء بحملها ذو العصبة أولي القوّة، فكيف بإنتاجها والقيام عليها تحقيقّاً وتصحيحا؟ كان أول اتصال لي بتراث الشيخ حفظه الله حين بدأت أبحث في أصول المذهب الحنبلي، فلا يرشدني مشايخي وذوو الشأن الأصولي أولاً إلا إلى كتاب الشيّخ التركي “أصول مذهب الإمام أحمد” فقد أتى في هذا الكتاب النفيس بما أغنى من بعده عن الكتابة فيه، ثم يممت الفقه وبدأت أتتبع كتب الأصحاب فيه، عادت لي الوصايا مرّة أخرى باقتناء تحقيقات الشيخ لكتب المذهب، فقد خدمها خدمة جلية، أصولاً وفروعاً، تحقيقاً وتعليقاً، متناً وشرحاً قلّ أن يكون ذلك لأحد فيما أعلم .
وأمامك من كتب الأصول للحنابلة فالواضح لابن عقيل، ومختصر ال روضة وشرحه للطوفي، ومدخل ابن بدران، وغيها كلها من تحقيقات الشيخ المباركة. فإن أردت مدار الحنابلة المتأخرين في اختيار المذهب فليس أمامك إلا أن تقرأ “الإقناع للحجاوي” و”منتهى الإرادات للحجاوي” وكلاهما بتحقيق الشيخ الجليل، ومن استغلت عليه عبارة، أو سمى مزيد بيان لشرح أحد هما ف “كشاف القناع عن متن الإقناع” و”شرح منتهى الإرادات” للبهوتي ومحققهما الشيخ الجليل ذاته.
ثم لا يقنع طالب العلم الحنبلي إلا بمراجعة “المقنع والكافي لابن قدامة”، و”الإنصاف ” للمرداوي، و”الفروع” لابن مفلح، ولا تجد أحسن من تحقيق الشيخ التركي لكل هذه مجتمعة. ا وصعد في كتب الفقه إلى أن تبلغ فيها منتهاها، فتمسك ب”المغني” مفخرة الفقه الإسلامي لأبي محمد ابن قدامة رحمه الله، فلا تجد أ وفى من تحقيق الشيخ له! وبين هذه المتون، ومفخرة الفقه الإسلامي ك تبٌ حنبلية يطول سردها كلّها من أعمال الشيخ في التحقيق وخدمة التراث الحنبلي . أ رأيت مثل هذه المساعِ العلمية في ال زمن الحديث لدمة تراث الحنابلة بالتحقيق والإخراج لطلاب العلم؟ ما أظن إلا أن العجز سيدركك إن رمت ذلك.
ثم انطلق في رحاب المكتبة الإسلامية، وانظر تفسي إمام المفسرين أبي جعفر الطبري رحمه الله، فقد أخرجه الشيخ في س ت وعشرين مجلد اً، وتفسي القرطبي في قريب من ذلك، والدر المنثور للسيوطي، والبداية والنهاية لابن كثي في واحد وعشرين مجلد اً. أ وما خدمة السنّة النبوية فلم يرضِ الشيخ إلا خدمة مطولها، وجماع سننها وصحاحها “مسند الإمام أحمد” فأخرجه في زهاء أربعين مجلداً مفهرساً، ومسند أبي دا ود الطيالسي في أربع مجلدات، ثم يمم الشيخ الهمّة نحو كتب شروح الحديث، فأخرج م وسوعة شروح الموطأ ضمّ فيها “التمهيد ا ولاستذكار لابن عبدالبر، و”القبس” لابن العربي رحمهما الله، و”المحرر في الحديث” لابن عبدالهادي، فاعجب من همّة قلّ نظيها في عصرنا الحديث .
وقل مثل هذه الدمة في كتب العقيدة، فقد أخرج الشيخ بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرناؤو ط تحقيقه لشرح ابن أبي العز الحنفي على العقيدة الطحاوية التي مازال الطلاب يدرسونها في الكليات الشرعية، و”الإرشاد إلى سبيل الاعتقاد” للهاشمي، وكتب كثية يطول ذكرها، هي أساس في المكتبة الإسلامية عمل الشيخ على إبرازها وطباعتها خدمةً للعلم وأهله، لا تدلُّ إلا على همّة جاوزت الجوزاء، وجعلت لها مع النجوم مكان.
ثم إن الناظر في سيرة الشيخ العملية حفظه الله، يجد أن الشيخ قد ترقى بين الرتب، وتنقّل بين المناصب، فكان حظّ جامعة الإمام به كبياً إذ خطّ لها موقعها المتميز في مقدّمة الرياض الآن، وقد كانت حين وقته تكاد تكون في خارجه، فلامه من ظ ن أن العمران لا يصل إليها، وراجع وه في تغيي موقعها، وتصغي مساحاتها، إلا أن ب عد نظر الشيخ فكان في محلّه، فهي واج هة الرياض للقادم إليها من مطار الملك خالد، ومفخرة المملكة في تأسيس العلم الشرعي وبثّه في شرق الأرض وغربها.
ومكانة الجامعة في قلب الشيخ مكانة كبية، ورغم أن الشيخ قد تقلّد وزارة الشؤون الإسلامية ا ولأوقاف والدعوة والإرشاد، وأشرف على مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ثم صار أمين رابطة العالم الإسلامي، وقد قدّ م في كل ما وليه من أعما ل منجزاتٌ جليلة القدر، إلا أن حب الشيخ للجامعة با د عليه من حديثه عنها، ومسامرة الزائ رين في الكلام حول تاريخها، وجهودها، ودورها البارز في خدمة العلم واحتضان العل ماء وطلابه فيها.
ومحبّة الشيخ للتأليف وتحقيق الكتب لم تقف عنده في مشاريعه الاصة، فأشرك في اهتمامه إدارة الجامعة وأعضاءها ليستخرج في حينها تحقيقا ت أشرفت الجامعة على طبعها وبثّها بين طلاب العلم ومريديه .
بين العلم والإدارة حياةٌ خطّها الشيخ بهمة عالية، وآثار مبا ركة تنبئك عن جدِّ المسي وبركة النيّة الطيبة في أعمال الشيخ ال وقور د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي حفظه الله و رعاه.

وإذا كانت النفوس كبارا … تعبت في مرادها الأجسام

Scroll to Top